حكم تارك الصلاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه
ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله
فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن مما " لا يختلف ]فيه
[المسلمون ، أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب ، وأكبر الكبائر ،
وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس ، وأخذ الأموال ، ومن إثم الزنا ، والسرقة
، وشرب الخمر ، وأنه معرض لعقوبة الله وسخطه ، وخزيه في الدنيا والآخرة
"[1] .
وقد وردت الآيات القرآنية تترى في تعظيم قدر الصلاة ، وبيان شديد إثم تاركها أو المتهاون بها :
قال تعالى :
]فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، إلا من تاب ..[[2] .
وقال سبحانه :
] فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون [[3].
وقال جل شأنه :
] ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين[ [4] .
... إلى غير ذلك من آيات كريمات ، تقرع الآذان ، وتصك الأسماع .
وقد جاءت أحاديث عدة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أخبر فيها عن عظيم الذنب الذي يتلبس به تارك الصلاة ، أو
المتهاون بها ، أو المتخاذل عنها :
فقال صلى الله عليه وسلم :
" بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة "[5] .
وقال صلى الله عليه وسلم :
" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر "[6] .
وقال صلى الله عليه وسلم :
" من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله "[7] .
قلت: وإزاء هذه النصوص القرآنية ، والنبوية: اختلف الأئمة والعلماء في تكفير متعمد ترك الصلاة :
قال الإمام البغوي في " شرح السنة " ( 2 / 178 ـ 179 ) :
" اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمداً ... " .
ثم ذكر طائفة من أسماء المختلفين في ذلك .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1 / 369 ) تعليقاً على حديث جابر المتقدم إيراده :
" الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات
الكفر ، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكراً لوجوبها ، إلا
أن يكون قريب عهد بالإسلام ، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب
الصلاة .
وإن كان تركه لها تكاسلاً مع اعتقاده لوجوبها – كما هو حال كثير من الناس [8] - فقد اختلف الناس في ذلك ... " .
ثم نقل – بعد ذلك نبذاً من الخلاف – مشهور
قول " الجماهير من السلف والخلف – منهم مالك والشافعي – إلى أنه لا يكفر ،
بل يفسق ، فإن تاب وإلا قتلناه حداً ، كالزاني المحصن ..." إلخ ..
وقال ابن حبان في " صحيحه " ( 4 / 324 ) :
" أطلق المصطفى صلى الله عليه وسلم اسم
الكفر على تارك الصلاة؛إذ ترك الصلاة أول بداية الكفر ، لأن المرء إذا ترك
الصلاة واعتاده:ارتقى منه إلى ترك غيرها من الفرائض، وإذا اعتاد ترك
الفرائض : أداه ذلك إلى الجحد ، فأطلق صلى الله عليه وسلم النهاية التي هي
آخر شعب الكفر على البداية التي هي أول شعبها ، وهي ترك الصلاة " .
ثم قال رحمه الله مبوباً : " ذكر خبر يدل
على صحة ما ذكرنا : أن العرب تطلق اسم المتوقع من الشيء في النهاية على
البداية " ، وبعد إيراده قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المِراءُ في
القرآن كفر " [9] ، قال :
" إذا مارى المرء في القرآن ؛ أداه ذلك –
إن لم يعصمه الله – إلى أن يرتاب في الآي المتشابه منه ، فأطلق صلى الله
عليه وسلم اسم الكفر – الذي هو الجحد – على بداية سببه الذي هو المِراءُ " .
فترك الصلاة شأن كبير ، وأمر خطير ، يودي - عياذاً بالله –إلى الردة عن الدين ، واللحوق بالكفار والمشركين .
وإذ اختلف العلماء والأئمة ، في هذه
المسألة المهمة: كان الواجب على طلاب العلم التأني والتوقي ، لا أن يعالجوا
كل تارك للصلاة بالوصم بالتكفير والردة ، بكل غلاظة وشدة ؛ إذ " [10]
الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ، ودخوله في الكفر ؛ لا
ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس
النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة ، المروية من طريق جماعة من
الصحابة [11] أن : " من قال لأخيه : يا كافر ؛ فقد باء بها أحدهما " ...
وفي لفظ في " الصحيح " : " ... فقد كفر أحدهما " .
ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر ، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير .
وقد قال الله عز وجل : ] ولكن من شرح
بالكفر صدراً [[12] ؛ فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، وطمأنينة القلب به ،
وسكون النفس إليه "[13] .
نعم ؛ قد تدفع الغيرة والعاطفة بعض أهل
العلم ، أو طلابه إلى الحكم بتكفير كل تارك للصلاة ، دون اعتبار لجحود أو
كسل ! حرصاً – في ظنهم – على الترهيب الشديد من هذا العمل الجلل ، ورغبة –
كما توهموا – في درء أي تساهل في الصلاة وحكمها ( قد ) يؤدي إلى التسيب في
هذا الركن الإسلامي العظيم !
وقد يستدل ( بعض ) من هؤلاء العلماء أو
الطلاب على ذلك بشيء من الأدلة القرآنية أو النبوية التي سبقت أو غيرها ،
لكن دون جمع بين الدلائل الواردة في هذه المسألة سلباً أو إيجاباً – حيناً –
أو بتقصير في هذه الجمع – أحياناً - ! !
ولست في هذه المقدمة – فضلا عما سيأتي في
رسالة شيخنا – بمستوعب القول في دلائل المختلفين في هذه المسألة العظيمة ،
وتحقيق مدارك الخلاف والنظر فيها ، فإن لهذا موضعاً آخر [14] ، ولكني أكتفي
هنا بذكر تنبيهات علمية مهمة قد تغيب عن عدد من طلاب العلم ، فأقول :
أولاً : قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل في وصيته لتلميذه الإمام الحافظ مسدد بن مسرهد [15] :
" ... ولا يُخرِجُ الرجل من الإسلام شيء
إلا الشرك بالله العظيم ، أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها ،
فإن تركها كسلاً أو تهاوناً : كان في مشيئة الله ؛ إن شاء عذبه ، وإن شاء
عفا عنه ... " [16] .
قلت :
وهذا هو صريح ما جاءنا في الكتاب والسنة بعموم الحكم ، وخصوص مسألة ترك الصلاة :
قال الله تعالى :
] إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ .
وقال صلى الله عليه وسلم :
" خمس صلوات كتبهن الله على العباد ، فمن
جاء بهن ، ولم يضيع منهم شيئاً استخفافاً بحقهن ، كان له عند الله عهد أن
يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن
شاء أدخله الجنة " [17] .
ثانياً : قال الإمام محمد بن عبد
الوهاب،رحمه الله تعالى – كما في "الدرر السنية" (1/70) - ، جواباً على من
سأله عما يُكفَّرُ الرجل به ؟ وعما يُقاتل عليه ؟ فقال رحمه الله :
" أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ،
ثم الأركان الأربعة ؛ إذا أقر بها وتركها تهاوناً ، فنحن وإن قاتلناه على
فعلها ، فلا نكفره بتركها ، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من
غير جحود ، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم ؛ وهو الشهادتان " .
ثالثاً : يستدل بعض أهل العلم في تكفيرهم تارك الصلاة بآية من القرآن العظيم يجعلونها عماد أدلتهم في التكفير ؛ وهي قوله
جل شأنه :
] فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [ [18] .
قالوا : وجه الدلالة من الآية أن الله
تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين إقام الصلاة ، فمن لم يقم
بها ، فلا يعد أخاً لنا في الدين !
فالجواب على هذا الاستدلال من وجهين :
الأول : قال الإمام ابن عطية في " المحرر الوجيز " ( 8 / 139 – طبع المغرب ) :
" تابوا : رجعوا عن حالهم ، والتوبة منهم تتضمن الإيمان " .
فإقامة الصلاة مشروطة ومسبوقة بالتوبة
التي هي متضمنة للإيمان ، إذ ذكر الله التوبة قبل ذكر الصلاة أو الزكاة ،
فدل ذلك على أنها هي قاعدة الأصل في الحكم بأخوة الدين .
لذا قال الطبري في " جامع البيان " ( 18 / 86 ) :
" يقول جل ثناؤه : فإن رجع هؤلاء المشركون
– الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم – عن كفرهم وشركهم بالله إلى الإيمان
به وبرسوله ، وأنابوا إلى طاعته ، وأقاموا الصلاة المكتوبة ، فأدوها
بحدودها، وآتوا الزكاة المفروضة أهلها: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم
الله به ، وهو الإسلام " .
ويدل على ما سبق :
الوجه الثاني :
أنه قرن بالصلاة الزكاة ، فهل من تاب وأقام الصلاة لكنه لم يزك : لا يكون أخاً في الدين ، عليه ما على المسلمين ، وله ما للمسلمين ؟!
إن قيل : لا ، بل هو أخ في الدين !
قلنا : ما هو دليل التفريق في الآية بين الصلاة والزكاة ، وهما مذكورتان بالترتيب والتساوي عقيب التوبة ؟
وإن قيل : ليس أخاً في الدين !!
قلنا : هذا باطل من القول بيقين ، ليس عليه أي دليل !
رابعاً : عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يدرس الإسلام كما يدرس وشيء الثوب ، حتى لا يدرى ما صيام ، ولا صلاة ، ولا نسك ، ولا صدقة .
وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا
يبقى في الأرض منه آية ، وتبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير، والعجوز،
يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة :" لا إله إلا الله " فنحن نقولها " .
رواه ابن ماجة ( 4049 ) والحاكم ( 4 / 473
) من طريق أبي معاوية ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة
بن اليمان مرفوعاً .
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وصححه –
أيضاً – البوصيري في " مصباح الزجاجة " ، وقواه الحافظ ابن حجر في " فتح
الباري " ( 13 / 16 ) .
وقد أعل [19] ( بعضهم ) الحديث وضعفه ؛ لكلام في أبي معاوية ! وهو غير ضاره .
ومع ذلك فقد خفيت ( عليهم ) متابعة جليلة :
فقد روى الحديث عن أبي مالك : أبو عوانة بإسناده ومتنه ، كما قال البوصيري في " المصباح "
( 3 / 254 ) .
وأبو عوانة : ثقة ثبت رضي .
وقال شيخنا الألباني في كتابه المعطار " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ( 1 / 130 – 132 ) تعليقاً على هذا الحديث الصحيح :
" هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة ؛ وهي
أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة
ولو كان لا يقوم بشيء من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها .
ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في حكم
تارك الصلاة خاصة ، مع إيمانه بمشروعيتها ، فالجمهور على أن لا يكفر بذلك ،
بل يفسق ، وذهب أحمد ] فيما يذكر عنه [[20] إلى أنه يكفر بتركها ، وأنه
يقتل ردة ، لا حداً .
وقد صح عن الصحابة أنهم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي والحاكم [21].
وأنا أرى أن الصواب رأي الجمهور ، وأن ما
ورد عن الصحابة ليس نصاً على أنهم كانوا يريدون بـ ( الكفر ) هنا الكفر
الذي يخلد صاحبه في النار ولا يحتمل أن يغفره الله له ، كيف ذلك وحذيفة بن
اليمان – وهو من كبار أولئك الصحابة – يرد على صلة ابن زفر وهو يكاد يفهم
الأمر على نحو فهم أحمد له ، فيقول : " ما تُغني عنهم لا إله إلا الله ،
وهم لا يدرون ما صلاة ... " فيجيبه حذيفة بعد إعراضه عنه : " يا صلة تنجيهم
من النار " ثلاثاً .
فهذا نص من حذيفة رضي الله عنه على أن
تارك الصلاة ، - ومنها بقية الأركان [22] - ليس بكافر ، بل هو مسلم ناج من
الخلود في النار يوم القيامة .
فاحفظ هذا فإنك قد لا تجده في غير هذا المكان .
ثم وقفت على " الفتاوى الحديثية " ( 84 / 2
) للحافظ السخاوي ، فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير
تارك الصلاة وهي مشهورة معروفة :
" ولكن كل هذا إنما يحمل على ظاهره في حق
تاركها جاحداً لوجوبها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين ، لأنه يكون حينئذ
كافراً مرتداً بإجماع المسلمين ، فإن رجع إلى الإسلام قبل منه ، وإلا قتل .
وأما من تركها بلا عذر ، بل تكاسلاً ، مع
اعتقاده بوجوبها ، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه لا يكفر ، وأنه
– على الصحيح أيضاً – بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها الضروري – كأن
يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس ، أو المغرب حتى يطلع الفجر – يستتاب كما
يستتاب المرتد ، ثم يقتل إن لم يتب ، ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر
المسلمين ، مع إجراء سائر أحكام المسلمين عليه .
ويؤول إطلاق الكفر عليه لكونه شارك الكافر
في بعض أحكامه ، وهو وجوب العمل ، جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صح أيضاً
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خمس صلوات كتبهن الله – فذكر الحديث ،
وفيه : " إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له " [23]
، وقال أيضاً : " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " [24] ، إلى غير ذلك .
ولهذا لم يزل المسلمون يرثون تارك الصلاة ويورثونه ، ولو كان كافراً لم يغفر له ، ولم يرث ولم يورث " اهـ .
خامساً : يجيب بعض أهل العلم على عدد من
الأحاديث الواردة في هذه المسألة مما يفيد شمول عفو الله سبحانه ومغفرته
ورحمته لبعض من تاركي الصلاة التي هي دون الشرك – كما قال جل شأنه : ] إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ - كمثل حديث البطاقة
[25] ، وحديث الشفاعة الآتي وغيرها من الأحاديث ، بأن يقول ( هؤلاء ) : "
هذه أحاديث ( عامة ) وأحاديث تكفير تارك الصلاة ( خاصة ) " !
أقول : ولو عكس ( هؤلاء ) – وفقهم الله –
قولهم لكانوا أقرب إلى الصواب ! كما هو معروف من قاعدة الوعد والوعيد [26]
عند أهل السنة فيما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع عدة من
كتبه كـ " مجموع الفتاوى " ( 4 / 484 ) ، ( 8 / 270 ) ، ( 11 / 648 ) ، (
23 / 305 ) وغيره .
وخلاصة القول في هذه القاعدة :
أن نصوص الوعيد داخلة تحت مشيئة الله سبحانه ، إما عفواً ، وإما تنفيذاً .
وأما نصوص الوعد فإن الله منفذها ، كما كتب – سبحانه - على نفسه [27] .
وفي ذلك يقول من يقول من أهل العلم مستدلاً على أصل هذه القاعدة :
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي [28]
وأنظر " شرح العقيدة الطحاوية " ( ص 318 ) .
سادساً : من أعجب العجب – بعد ما سبق – أن
يقول ( البعض ) واصفاً القول بعدم تكفير تارك الصلاة ، مع إثبات فسقه
وفجوره : بأنه إرجاء ؟!
فما هو الإرجاء عند هؤلاء ؟!
وما هي حدوده [29] ؟! وما هي ضوابطه ؟!
.. وبعد هذا السابق كله ؛ فإننا نؤكد
ونبين بكل صراحة ووضوح أن تارك الصلاة مجرم فاجر ، وآثم فاسق ، يخشى عليه –
عياذ بالله – من الردة والكفر ، والخروج من الإسلام والشرك ، إن لم يسارع
بالتوبة والإنابة ، والاستغفار والهداية ، أو إن لم يتغمده الله – سبحانه –
بعفوه وعنايته .
وأخيرا :
" فإن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى ،
وقد تنازع فيها أهل العلم سلفاً وخلفاً " [30] ، فالبحث فيها يجب أن يكون
بروح طيبة وعقل منير، ونظر سديد ، بعيد عن التعصب ، مع اطراح التقليد ، إذ
هذا كله يوصل إلى معرفة الحق ، والوقوف عليه ، والدعوة إليه .
وهذه الرسالة [31] لشيخنا العلامة المحدث
المحقق محمد ناصر الدين الألباني – حفظه الله سبحانه – مثال حسن على ما
قدمته ، نقدمها للإخوة القراء ، رغبة في نشر العلم ، وطمعاً في تحصيل
الثواب ، واستجابة لأمر الله سبحانه بالرد – عند الاختلاف – إليه وإلى
رسوله صلى الله عليه وسلم :
] ... فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً [ .
فلا يمنعن أحداً من قارئي هذه الرسالة
إلفُهُ أو عادته ، أو ما نشأ عليه أو تلقنه : من أن يقبل الحق وينصاع إليه ،
ويجاهد دونه ، إذ الحق أغلى ما يطلب ، وأعز ما يرغب .
فالله العظيم نسأل التوفيق والسداد ، والرشد والرشاد ، وهداية من صل من العباد ، وقصم من تلبس بالكفر والعناد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب :
علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد
الحلبي الأثري
يوم الأربعاء : السابع عشر من شهر رجب
سنة اثنتي عشرة وأربع مئة وألف للهجرة .
مقدمة المؤلف
إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه و نستغفره
، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل
له و من يضلل فلا هادي له .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
و أشهد أن محمدا عبده و رسوله .
أما بعد : فهذا بحث علمي لطيف ، في تخريج و
شرح حديث نبوي شريف ، أصله من أحاديث المجلد السابع من كتابي : (( سلسلة
الأحاديث الصحيحة ))([32]) ، و رأيت إفراده بالنشر لأهميته و كبير فائدته ،
و ذلك بعد أن رآه بعض إخواننا ، فاقترح علي نشره مفردا ، من باب الاستعجال
بالخير ، فوافق ذلك ما عندي ، فدفعت صورة منه إلى صاحبنا و تلميذنا الشاب
علي بن حسن الحلبي ليقوم بتهيئته للنشر ، و إعداده للطبع ، مع كتابة مقدمة
علمية له ، تقرب فوائده للقراء الأفاضل .
و قد فعل ذلك كله – جزاه الله خيرا – ؛ ثم أشرف على طباعته ، و تصحيحه ، و مراجعته .
و في آخر هذه المقدمة الوجيزة ، أسأل الله سبحانه أن ينفع بهذا البحث العلمي من يقرؤه و ينظر فيه ، إنه سميع مجيب .
فأقول و بالله التوفيق :
متن الحديث :
روى الإمام معمر بن راشد في (( الجامع )) (
11 / 409 – 411 ، الملحق بـ (( مصنف عبد الرزاق([33]) )) ) عن زيد بن أسلم
، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
(( إذا خلص المؤمنون من النار و أمنوا ،
فـ [ و الذي نفسي بيده ] ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا
بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار .
قال : يقولون : ربنا ! إخواننا كانوا يصلون معنا ، و يصومون معنا ، و يحجون معنا ، [ و يجاهدون معنا ] ، فأدخلتهم النار !
قال : فيقول : اذهبوا ، فأخرجوا من عرفتم منهم .
فيأتونهم ؛ فيعرفونهم بصورهم ، لا تأكل
النار صورهم ، [ لم تغش الوجه ] ، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ، و
منهم من أخذته إلى كعبيه([34]) ، [ فيخرجون منها بشرا كثيرا ] ، فيقولون :
ربنا ! قد أخرجنا من أمرتنا .
قال : ثم [ يعودون فيتكلمون فـ ] يقول : أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينارمن الإيمان .
[ فيخرجون خلقا كثيرا ] ثم [ يقولون : ربنا ! لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا.
ثم يقول : ارجعوا ، فـ ] من كان في قلبه
وزن نصف دينار [ فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر
فيها ممن أمرتنا ... ] ..
حتى يقول : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة [ فيخرجون خلقا كثيرا ] .
قال أبو سعيد :
فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية :
] إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما [([35]).
قال : فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا ، فلم يبق في النار أحد فيه خير !
قال : ثم يقول الله : شفعت الملائكة ، و شفعت الأنبياء ، و شفع المؤمنون ، و بقي أرحم الراحمين .
قال : فيقبض قبضة من النار – أو قال : قبضتين – ناسا لم يعملوا خيرا قط ، قد احترقوا حتى صاروا حمما .
قال : فيؤتى بهم إلى ماء يقال له : (
الحياة ) ، فيصب عليهم ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، [ قد
رأيتموها إلى جانب الصخرة ، و إلى جانب الشجرة ، فما كان إلى الشمس منها
كان أخضر ، و ما كان منها إلى الظل كان أبيض ] .
قال : فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ ، و في أعناقهم الخاتم ( و في رواية : الخواتم ) ، عتقاء الله .
قال : فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فما
تمنيتم و رأيتم من شيء فهو لكم [ و مثله معه ]([36]) ، [ فيقول أهل الجنة :
هؤلاء عتقاء الرحمن ، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ، و لا خير قدموه] .
قال : فيقولون : ربنا ! أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين !
قال : فيقول : فإن لكم عندي أفضل منه !
فيقولون : ربنا ! و ما أفضل من ذلك ؟
[ قال : ] فيقول : رضائي عنكم ، فلا أسخط عليكم أبدا )) .
تخريجه :
و إسناده صحيح على شرط الشيخين .
و هو من رواية عبد الرزاق عن معمر :
و من طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد ( 3 / 94
) و النسائي ( 2 / 271 ) و ابن ماجة ( رقم : 60 ) و ابن خزيمة في ((
التوحيد )) ( ص 184 و 201 و 212 ) و ابن نصر المروزي في (( تعظيم قدر
الصلاة )) ( رقم : 276 ) .
و تابع عبد الرزاق :
محمد بن ثور ، عن معمر ، به ، لم يسق لفظه ، و إنما قال : بنحوه .
يعني حديث هشام بن سعد الآتي تخريجه .
و تابع معمرا جماعة :
أولا: سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، به ، أتم منه ، و أوله : (( هل تضارون في رؤية الشمس و القمر ... )) الحديث بطوله .
أخرجه البخاري ( 7439 ) و مسلم ( 1 / 114 – 117 ) و ابن خزيمة أيضا ( ص 201 ) و ابن حبان ( 7333 – الإحسان ) .
ثانيا : حفص بن ميسرة ، عن زيد :
أخرجه مسلم ( 1 / 114 – 117 ) ، و كذا البخاري ( 4581 ) و لكنه لم يسقه بتمامه ، و كذا أبو عوانة ( 1 / 168 – 169 ) .
ثالثا : هشام بن سعد ، عن زيد :
أخرجه أبو عوانة ( 1 / 181 – 183 ) بتمامه
، و ابن خزيمة ( ص 200 ) ، و الحاكم ( 4 / 582 – 584 ) و صححه ، و كذا
مسلم ( 1 / 17 ) إلا أنه لم يسق لفظه ، و إنما أحال به على لفظ حديث حفص بن
ميسرة ، نحوه .
و تابع زيدا :
سليمان بن عمرو بن عبيد العتواري – أحد
بني ليث ، و كان في حجر أبي سعيد – قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ...
فذكره نحوه مختصرا ، و فيه الزيادة الثالثة .
أخرجه أحمد ( 3 / 11 – 12 ) و ابن خزيمة (
ص 211 ) و ابن أبي شيبة في (( المصنف )) ( 13 / 176 / 16039 ) و عنه ابن
ماجة ( 4280 ) و ابن جرير في (( التفسير )) ( 16 / 85 ) و يحيى بن صاعد في
(( زوائد الزهد )) ( ص 448 / 1268 ) ، و الحاكم ( 4 / 585 ) و قال :
(( صحيح الإسناد على شرط مسلم )) !
و بيض له الذهبي !!
و إنما هو حسن فقط ، لأن فيه محمد بن إسحاق ، و قد صرح بالتحديث .
فقهه :
بعد تخريج هذا الحديث هذا التخريج الذي قد
لا تراه في مكان آخر ، و بيان أنه متفق عليه بين الشيخين و غيرهما من أهل
(( الصحاح )) و (( السنن )) و (( المسانيد )) ، أقول :
في هذا الحديث فوائد جمة عظيمة ، منها :
شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم ،
ثم بغيرهم ممن هو دونهم ، على اختلاف قوة إيمانهم .
ثم يتفضل الله تبارك و تعالى على من بقي في النار من المؤمنين ، فيخرجهم من النار بغير عمل عملوه ، و لا خير قدموه .
و لقد توهم ( بعضهم ) أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار !
قال الحافظ في (( الفتح )) ( 13 / 429 ) :
(( و رد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين ،
كما تدل عليه بقية الأحاديث )) .
قلت : منها قوله صلى الله عليه و سلم في حديث أنس الطويل في الشفاعة أيضا :
(( فيقال : يا محمد ! ارفع رأسك ، و قل تسمع ، و سل تعطه ، و اشفع تشفع.
فأقول : يا رب ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله .
فيقول : و عزتي و جلالي و كبريائي و عظمتي لأخرجن منها من قال : لا إله إلا الله )) .
متفق عليه ، و هو مخرج في (( ظلال الجنة )) ( 2 / 296 ) .
و في طريق أخرى عن أنس :
(( ... و فرغ الله من حساب الناس ، و أدخل
من بقي من أمتي النار ، فيقول أهل النار : ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون
الله عز و جل لا تشركون به شيئا ؟
فيقول الجبار عز و جل : فبعزتي لأعتقنهم من النار .
فيرسل إليهم ، فيخرجون و قد امتحشوا ، فيدخلون في نهر الحياة ، فينبتون ... )) الحديث .
أخرجه أحمد و غيره بسند صحيح ، و هو مخرج
في (( الظلال )) تحت الحديث ( 844 ) ، و له فيه شواهد ( 843 – 843 )([37]) ،
و في (( الفتح )) ( 11 / 455 ) شواهد أخرى .
و في الحديث([38]) رد على استنباط ابن أبي
جمرة من قوله صلى الله عليه و سلم فيه : (( لم تغش الوجه )) ، و نحوه
الحديث الآتي بعده : (( إلا دارات الوجوه )) : (( أن من كل من مسلما و لكنه
كان لا يصلي لا يخرج [ من النار ] إذ لا علامة له )) !
و لذلك تعقبه الحافظ بقوله ( 11 / 457 ) :
(( لكنه يحمل على أنه يخرج في القبضة ،
لعموم قوله : (( لم يعملوا خيرا قط )) ، و هو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي
في ( التوحيد ) )) .
يعني هذا الحديث .
و قد فات الحافظ – رحمه الله – أن في
الحديث نفسه تعقبا على ابن أبي جمرة من وجه آخر ، و هو أن المؤمنين لما
شفعهم الله في إخوانهم المصلين و الصائمين و غيرهم في المرة الأولى ،
فأخرجوهم من النار بالعلامة ، فلما شفعوا في المرات الأخرى ، و أخرجوا بشرا
كثيرا ، لم يكن فيهم مصلون بداهة ، و إنما فيهم من الخير كل حسب إيمانهم .
و هذا ظاهر جدا لا يخفى على أحد إن شاء الله .
مباحث و مناقشات :
و على ذلك فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلما يشهد أن لا إله إلا الله : أنه لا يخلد في النار مع المشركين .
ففيه دليل قوي جدا أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله : ] إن الله لا يغفر أن يشرك به ، و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ .
و قد روى الإمام أحمد في (( مسنده )) ( 6 /
240 ) حديثا صريحا في هذا من رواية عائشة رضي الله عنها ، مرفوعا بلفظ :
(( الدواوين عند الله عز و جل ثلاثة ... )) الحديث ...
وفيه :
" ... فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال عز وجل : ] من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [ [39] .
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً
فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها ، فإن
الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء ... " الحديث ...
و قد صححه الحاكم ( 4 / 576 ) .
و هذا و إن كان غير مسلم عندي لما بينته
في (( تخريج الطحاوية )) ( ص 367 – الطبعة الرابعة ) ، فإنه يشهد له هذا
الحديث الصحيح ، فتنبه .
إذا عرفت ما سلف – يا أخي المسلم – فإن
عجبي لا يكاد ينتهي من إغفال جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في
هذه المسألة الهامة ألا و هي : هل يكفر تارك الصلاة كسلا أم لا ؟
لقد غفلوا جميعا([40]) – فيما اطلعت – عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين و غيرهما على صحته !
لم يذكره من هو حجة له ، و لم يجب عنه من
هو حجة عليه ! و بخاصة منهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فإنه مع
توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم (( الصلاة )) ، وجواب كل منهم
عن أدلة مخالفه ؛ فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير ؛
إلا مختصرا اختصارا مخلا ، لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل
تارك الصلاة أيضا ؛ فقد قال([41]) رحمه الله :
(( و في حديث الشفاعة : يقول الله عز و جل
: (( و عزتي و جلالي ، لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله )) ؛ و فيه
: فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط )) .
قلت : و هذا السياق ملفق من حديثين :
فالشطر الأول منه : هو في آخر حديث أنس المتفق عليه و قد سبق أن ذكرت ( ص 33 ) الطرف الأخير منه .
و الشطر الآخر هو في حديث الكتاب :
(( ... فيقبض قبضة من النار ناسا لم يعملوا لله خيرا قط ... )) .
و أما أن اختصاره اختصار مخل ، فهو واضح
جدا إذا تذكرت أيها القارئ الكريم ما سبق أن استدركته على الحافظ ( ص 34
)([42]) متمما به تعقيبه على ابن أبي جمرة ؛ مما يدل على أن شفاعة المؤمنين
كانت لغير المصلين في المرة الثانية و ما بعدها ، و أنهم أخرجوهم من النار
.
فهذا نص قاطع في المسألة ينبغي به أن يزول
النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة التي
منها عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية ؛ و بخاصة في هذا الزمان
الذي توسع فيه بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين لإهمالهم القيام
بما يجب عليهم عمله ، مع سلامة عقيدتهم ؛ خلافا للكفار الذين لا يصلون
تدينا و عقيدة ، و الله سبحانه و تعالى يقول : ] أفنجعل المسلمين كالمجرمين
ما لكم كيف تحكمون [ ؟!
.. لما تقدم كنت أحب لابن القيم رحمه الله
أن لا يغفل ذكر هذا الحديث الصحيح كدليل صريح للمانعين من التكفير ، و أن
يجيب عنه إن كان لديه – رحمه الله – جواب ، و بذلك يكون قد أعطى البحث و
الإنصاف الفريقين دون تحيز لفئة .
نعم ؛ نه لمما يجب علي أن أنوه به أنه –
رحمه الله – عقد فصلا خاصا([43]) (( في الحكم على الفريقين ، و فصل الخطاب
بين الطائفتين )) يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين فهما صحيحا ، فإنه
حقق في تحقيقا رائعا ما هو مسلم به عند العلماء أنه ليس كل كفر يقع فيه
المسلم يخرج به من الملة .
فمن المفيد أن أقدم إلى القارئ فقرات أو
خلاصات من كلامه تدل على مرامه ، ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا
الحديث الصحيح ، و يؤيد المذهب الرجيح .
لقد أفاد – رحمه الله – ([44]) (( أن الكفر نوعان :
كفر عمل .
و كفر جحود و اعتقاد ...
و أن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان
، و إلى ما لا يضاده ؛ فالسجود للصنم ، و الاستهانة بالمصحف ، و قتل النبي
و سبه يضاد الإيمان .
و أما الحكم بغير ما أنزل الله ، و ترك الصلاة ، فهو من الكفر العملي قطعا )) .
( قلت : هذا الإطلاق فيه نظر ، إذ قد يكون
ذلك من الكفر الاعتقادي أحيانا ، و ذلك إذا اقترن معه ما يدل على فساد
عقيدته ، كاستهزائه بالصلاة و المصلين ، و كإيثاره القتل على أن يصلي إذا
دعاه الحاكم إليها ، كما سيأتي ، فتذكر هذا ، فإنه مهم ) .
ثم قال رحمه الله :
(( و لا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله و رسوله عليه ، و لكن هو كفر عمل ، لا كفر اعتقاد .
و قد نفى رسول الله صلى الله عليه و سلم
الإيمان عن الزاني ، و السارق ، و شارب الخمر ، و عمن لا يأمن جاره بوائقه ،
و إذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل ، و انتفى عنه كفر
الجحود و الاعتقاد )) .
( قلت : لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على
أمثال هؤلاء لفظة الكفر ، فيقال مثلا : من زنى فقد كفر ، فضلا عن أنه لا
يجوز أن يقال : فهو كافر ، حتى على تارك الصلاة – أي أن يقال : كافر – ، و
على غيره ممن وصف في الحديث بالكفر ، وقوفا مع النص ، و من باب أولى أن لا
يقال : كافر حلال الدم !! ) .
ثم قال – رحمه الله – بعد أن ذكر الحديث الصحيح : (( سباب المسلم فسوق ، و قتاله كفر ))([45])
(( و معلوم أنه صلى الله عليه و سلم إنما
أراد الكفر العملي لا الاعتقادي ، و هذا الكفر لا يخرجه من الدائرة
الإسلامية و الملة بالكلية ، كما لم يخرج الزاني و السارق من الملة ، و إن
زال عنه اسم الإيمان .
و هذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله ، و بالإسلام و الكفر ، و لوازمهما )) .
ثم ذكر الأثر المعروف [46]عن ابن عباس في
تفسير قوله تعالى : ] و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ قال
: (( ليس بالكفر الذي يذهبون إليه )) .
( قلت : زاد الحاكم : (( إنه ليس كفرا ينقل عن الملة ، كفر دون كفر )) ، و صححه هو ( 2 / 313 ) و الذهبي .
و هذا قاصمة ظهر جماعة التكفير ، و أمثالهم من الغلاة ) .
ثم قال ابن القيم رحمه الله :
(( و المقصود أن سلب الإيمان عن تارك
الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر ، و سلب اسم الإسلام عنه أولى من
سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه و يده ، فلا يسمى تارك الصلاة مسلما و
لا مؤمنا ، و إن كان معه شعبة من شعب الإسلام أو الإيمان )) .
( قلت : نفي التسمية المذكورة عن تارك
الصلاة : فيه نظر ، فقد سمى الله تعالى الفئة الباغية مؤمنة في الآية
المعروفة : ] و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... [ ، مع
قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث المتقدم : (( ... و قتاله كفر )) ،
فكما يلزم من وصف المسلم الباغي بالكفر نفي اسم المؤمن عنه فضلا عن اسم
المسلم ، فكذلك تارك الصلاة ، إلا إن كان يقصد بذلك النفي أنه مسلم كامل ! و
ذلك بعيد ) .
قال :
(( نعم ؛ يبقى أن يقال : فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار ؟
فيقال : ينفعه إن لم يكن المتروك شرطا في صحة الباقي و اعتباره .
و إن كان المتروك شرطا في اعتبار الباقي لم ينفعه .
فهل الصلاة شرط لصحة الإيمان ؟
هذا سر المسألة )) .
قلت : ثم أشار – رحمه الله – إلى الأدلة
التي كان ذكرها للفريق الأول المكفر ، ثم قال : (( و هي تدل على أنه لا
يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة )) .
فأقول : يبدو لي جليا أن ابن القيم بعد
بحثه القيم في التفريق بين الكفر العملي و الكفر الاعتقادي ، و أن المسلم
لا يخرج من الملة بكفر عملي ، لم يستطع أن يحكم للفريق المكفر بترك الصلاة ،
مع الأدلة الكثيرة التي ساقها لهم ، لأنها كلها لا تدل على الكفر
العملي([47]) !
و لذلك ؛ لجأ أخيرا إلى أن يتساءل : (( هل ينفعه إيمانه ؟ و هل الصلاة شرط لصحة الإيمان ؟ )) .
قلت : إن كل من تأمل في جوابه على هذا
التساؤل يلاحظ أنه حاد عنه إلى القول بأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا
بالصلاة ! فأين الجواب عن كون الصلاة شرطا لصحة الإيمان ؟
أي : ليس فقط شرط كمال ، فإن الأعمال
الصالحة كلها شرط كمال عند أهل السنة([48]) ، خلافا للخوارج و المعتزلة
القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار ، مع تصريح الخوارج بتكفيرهم .
فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان
، و أن تاركها مخلد في النار ؛ فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا ، و
أخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا ؛ كما تقدم بيانه .
و لعل ابن القيم – رحمه الله – بحيدته عن
ذاك الجواب ، أراد أن يشعر القارئ بأهمية الصلاة في الإسلام من جهة ، و أنه
لا دليل على أنها شرط لصحة الإيمان من جهة أخرى .
و عليه ؛ فإن تارك الصلاة كسلا لا يكفر
عنده إلا إذا اقترن مع تركه إياها ما يدل على أنه كفر كفرا اعتقاديا ؛ فهو
في هذه الحالة – فقط – يكفر كفرا يخرج به من الملة ، كما تقدمت الإشارة
بذلك مني ، و هو ما يشعر به كلام ابن القيم في آخر هذا الفصل ، فإنه قال :
(( و من العجب أن يقع الشك في كفر من أصر
على تركها ، و دعي إلى فعلها على رؤوس الملأ ، و هو يرى بارقة السيف على
رأسه ، و يشد للقتل ، و عصبت عيناه ، و قيل له : تصلي و إلا قتلناك ؟!
فيقول : اقتلوني ، و لا أصلي أبدا ! )) .
قلت : و على مثل هذا المصر على الترك و
الامتناع عن الصلاة ، مع تهديد الحاكم له بالقتل : يجب أن تحمل كل أدلة
الفريق المكفر للتارك للصلاة .
و بذلك تجتمع أدلتهم مع أدلة المخالفين ، و
يلتقون على كلمة سواء ؛ أن مجرد الترك لا يكفر ، لأنه كفر عملي ، لا
اعتقادي كما تقدم عن ابن القيم .
و هذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله ، - أعني أنه حمل تلك الأدلة هذا الحمل – فقال في (( مجموع الفتاوى
)) ( 22 / 48 ) ؛ و قد سئل عن تارك الصلاة من غير عذر : هل هو مسلم في تلك
الحال ؟!
فأجاب – رحمه الله – ببحث طويل ملئ علما ،
لكن المهم منه الآن ما يتعلق منه بحديثنا هذا ، فإنه بعد أن حكى أن تارك
الصلاة يقتل عند جمهور العلماء ؛ مالك و الشافعي و أحمد ، قال :
(( و إذا صبر حتى يقتل ، فهل يقتل كافرا مرتدا ، أو فاسقا كفساق المسلمين؟
على قولين مشهورين ، حكيا روايتين عن أحمد
، فإن كان مقرا بالصلاة في الباطن ، معتقدا لوجوبها ، يمتنع([49]) أن يصر
على تركها حتى يقتل و لا يصلي ، هذا لا يعرف من بني آدم و عادتهم ، و لهذا ؛
لم يقع قط في الإسلام ، و لا يعرف أن أحدا يعتقد وجوبها ، و يقال له : إن
لم تصل و إلا قتلناك ، و هو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب ؛ فهذا لم يقع
قط في الإسلام .
و متى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم
يكن في الباطن مقرا بوجوبها ؛ و لا ملتزما بفعلها ، فهذا كافر باتفاق
المسلمين ، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ، و دلت عليه النصوص
الصحيحة ، كقوله صلى الله عليه و سلم : (( ليس بين العبد و بين الكفر إلا
ترك الصلاة )) ، رواه مسلم [50].
فمن كان مصرا على تركها حتى يموت لا يسجد
لله سجدة قط ، فهذا لا يكون قط مسلما مقرا بوجوبها([51])، فإن اعتقاد
الوجوب ، و اعتقاد أن تاركها يستحق القتل ، هذا داع تام إلى فعلها ، و
الداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور .
فإذا كان قادرا و لم يفعل قط علم أن الداعي في حقه لم يوجد ، و الاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل .
لكن هذا قد يعارضه أحيانا أمور توجب تأخيرها ، و ترك بعض واجباتها ، و تفويتها أحيانا .
فأما من كان مصرا على تركها ، لا يصلي قط ، و يموت على هذا الإصرار و الترك فهذا لا يكون مسلما .
[font=Tahoma][size=9]لكن أكثر الناس يصلون تارة ، و يتركونها
تارة ، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها ، و هؤلا